الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

ليال بعد خولة .... الدخول في التيه



" يا ربُّ
هل ستنوح هاتيك البلاد
على المفارق؟
ليت شعري!
هل ستحنو هذه الطرقات،
.........................."
"ليال بعد خولة" هو الديوان الثاني للشاعرهاني الصلوي؛ بعد ديوانه الأول "على ضفة في خيال المغني" الصادر في عام 2004، والديوان مجموعة من القصائد التي كتبها الشاعر في الفترة بين عامي (2004 ، 2006).
المجموعة الشعرية تمتلك امتدادا نفسيا واحدا متغلغلا في ثنايا اللغة، وانطلاقا من زاوية التأمل العلاماتي (السميولوجي) نجد أن الديوان يطرح عددا من الاشكاليات تبدأ من أول عتبات الديوان " العنوان" (ليال بعد خولة) الذي يجعلنا نتساءل:
من خولة ؟ وإذا كانت خولة المتنبي فلماذا المتنبي دون غيره؟
بعد قراءة الديوان، واكتشافنا أنها خولة المتنبي، نتساءل أيضا لماذا التأريخ للحياة النفسية للمتنبي بعد خولة، وليس ـمثلاـ بعد اتصاله بسيف الدولة؟ ولماذا اختار الشاعر هاني الصلوي فترة مؤلمة في السيرة النفسية للمتنبي؟
بداية نقول إن الديوان في مجمله مرثية طويلة مقدمة إلى كل شيء؛ إلى الحبيبة، الوطن، الحرية، وقبل كل شيء وبعده إلى الذات. و قد رسم الشاعر خطوط الديوان على أساس تتبع السيرة النفسية للمتنبي، فجعل نقطة البداية من حيث الإطار التاريخي تبدأ بالليلة الأخيرة التي قضاها الشاعر بحلب، والإطار النفسي حدده بليلة الرحيل النهائي لخولة "أخت سيف الدولة"، وحبيبة المتنبي، فلنا أن نتخيل الشاعر العظيم وهو يلملم أشياءه البسيطة معلنا الرحيل عن حلب، عن سيف الدولة، عن أحلامه، وعن حبيبته، كذلك نتخيل خولة الحبيبة وهي تلملم أيضا أوراقها لرحلة أخرى أكثر مدى، ولنا أن نتخيل المتنبي وهو يتساءل في خلسة عن أحوالها، فلما علم كونها تحتضر الآن، يهم باقتحام الخدور، فخولة آخر ما يبقيه في حلب بعد انحسار أحلامه، فإذا بها تشارف الموت، حينها أدرك المتنبي/ الصلوي الحقيقة الكلية لخولة؛ فيحس بأنها في نفسه أكثر من امرأة أحبها، أو حتى مصدر للمجد المؤمل على يديها، هي ذاته بكل ما يشعر به من سمو شعري واحتراق وجودي، وإن فرقتهما الأماكن والخدور فها قد جمعهما فعل الاحتضار؛ فالموت يحاصرها الآن، والغربة تنتظره على مشارف الصحراء، ليبدأ كل منهما رحلة طويلة.
خولة/ حلب التي كانت موقد الحلم ومرجله، المدينة التي احتضنتهما معا، لكنها في النهاية آثرت جسد خولة فاحتوتها في ثراها إلى الأبد، واحتضنت أحلام المتنبي وانهياراته السلطية، تلك المدينة التي أدرك المتنبي مبكرا أنه قد أعطاها وهجها التاريخي على مر العصور؛ فلا تذكر حلب إلا والمتنبي حامل شعلتها وقائد توجهها التاريخي في خريطة الثقافة العربية، محلقا بسيدها "سيف الدولة" على رؤوس الأشهاد في كتب الحضارة، لما أدرك المتنبي ذلك أحس أن خروجه منها تنازل عن عرشه الذي صنعه بها، لذا خرج في رحلة طويلة لكنه ظل كفراشة تحوم حول حلب/ النار، يدور حولها من مصر إلى العراق إلى اليمن في دائرة دائمة.
انطلاقا من الزاوية السميولوجية نلحظ أن تصميم الغلاف وطريقة الكتابة تتفق مع الدلالة العامة المسيطرة على النص الشعري، فالديوان مفعم بالحزن حتى أننا إذا ما تأملناه وجدناه مؤطرا باللون الأسود، كذلك كان الحبر المستخدم أسود على صفحات ليست ناصعة البياض تماما، وقد كُتبت الكلمات بخط ليس بارزا بالقدر الكافي ـبخلاف عناوين القصائدـ وكل ذلك إنما يتماس وشعور الحزن الذي عادة ما يغلفنا من الخارج ويكتبنا من الداخل.
كان للوحة الغلاف أن مثلت تداخلا بين جسدين أكثر من كونها تعبيرا عن عاشقين، فهي تبث في جو النص نوعا من اليقين الوجداني والثبات النفسي المفقود في السياق الداخلي للمجموعة الشعرية بعد أن وقف المتنبي وحيدا في متاهته الصحراوية الشائكة، إذن الديوان كل متصل؛ فالشاعر هاني الصلوي في كتابة نصه الشعري صبغه بإطار درامي عمل على تماسك العمل كله كصورة واحدة ممتدة، مما جعل الديوان والمتنبي معا في مجملهما استعارة كبرى كلية امتدت على اتساع النص الشعري، وكان للحس الدرامي سمة بارزة فيه؛ بل تكاد تكون سمته الكبرى، والدراما في "الشعرالمعاصر" أكبر من وجود شخصيات أو حدث متصاعد في العمل الشعري؛ إنما هي صراع البناء اللغوي الذي يمسك بتلابيب القصيدة، وقد عمد الصلوي في دراميته أن يجعل كل قصيدة بمثابة ليلة في حياة المتنبي المتخيل الذي أعاشه الصلوي لياليا وليست أياما أو نهارات، فأكسب هذا الاختيارُ الزمني القصائدَ أثرا نفسيا ودلالة في بناء النص؛ فالزمنية مهمة سواء في رسم الصورة العامة، أو في الدلالة الفردية النفسية لشخصية المتنبي، حيث يخلو إلانسان الى نفسه –عادة- ليلا ليراجع يومه، ويقف من نفسه موقف السائل الذي حيرته الإجابات المضللة، كما بالليل يأتي الأرق الذي هو صنو الروح الشاعرة لدى الصلوي/المتنبي، والشاعر اختار ليالي معينة هي تلك التي كانت محملة بالدلالة في حياة متنبيه/ الإنسان عبر رحلته؛ الذي كلما أوقد نارا في ليلته راح يرسم ويعيد بناء عالمه ويضع الشخوص منه موضعا جديدا، فالشخصيات دائمة التحور (سيف الدولة، كافورالاخشيدي، النقاد)، ولكن ظلت خولة أقرب إلى الثبات من أول (الإبهام/ المقدمة) حتى ما بعد الرحيل؛ فخولة يخاطبها المتنبي على قدم المساواة متسلحا ندية مفترضه ومتمناه، جاعلا من ذاته سبيل خولة إلى المجد والحب، مما يؤكد التداخل بين خولة والذات، والمتنبي في قصائد الصلوي يرتقي في رحاب المساواة والندية بأدوات الصلوي التي يعرف كلاهما وقعها؛ فالشعر أداتهما الكبرى وحصانهما الذي إن إمتطاياه رضخت لهما الدنيا وألقت إليهما بزمامها، وظلت خولة لهما رمزا دائما للمجد.
ومن هذه الأدوات التي قامت على تيمة (الشعر) كإطار عام صاغ فيه الصلوي تجربته تأتي أدوات داخلية تجمع التفاصيل وتعيد تشكيلها، كالتناص الذي بدأ عند الصلوي من المعايشة الوجدانية لشاعر عظيم في قامة المتنبي إلى النصوص الشعرية التي أثبتها في الديوان سواء بنصها أو بما يقاربها أو بمعناها.
أما البناء اللغوي في بناء النص الشعري عند الصلوي فيظهر في بعض السمات الأسلوبية المتعلقة بطريقة بنائه للجملة؛ كعناوين القصائد التي يلاحظ أنها منذ عنوان الديوان "ليال بعد خولة" حتى آخر عنوان داخلي للقصيدة الثالثة عشر "جَّل هذا الكائن الليلي" فجميعها جاءت في صياغة الجملة وليس الإفراد، والشاعر إذ يبني مفاتيح نصه الشعري ـالعنوان ـ على الجملة يقصد إتاحة قدر أكبر من احتمالية المعنى، ويؤسس لنوع من التفاعل النفسي مع الديوان؛ لأن حركة المبدع والمتلقي تكون متسقة مع دلالة المسند والمسند إليه في الجملة.
داخل حيز الجملة الشعرية جاءت الجملة الإسمية التي تنوعت بين الإبتداء، الإضافة، الجار والمجرور، والحروف الناسخة، كما تنوعت الجملة الفعلية زمنيا بين الماضي والحاضر، واستخدام الأفعال الناقصة، وأفعل التفضيل التي مثلت ظاهرة لغوية –في العناوين- لها دلالتها البنائية في النص.
أما في داخل النص الشعري، فتشيع ظاهرة الاستفهام ودورها المتنوع في بناء النص، إذ تردد الإستفهام في النص الشعري (39) مرة، استخدم فيها الأدوات: هل/عشرة مرات، كيف/ثماني مرات، الهمزة /ثماني مرات، ما/ثلاث مرات، من/مرتان، كم، متى، أين /مرة واحدة، وبدون أداة/ ثلاث مرات. غير مبال بعلامة الاستفهام "؟" في بعض الجمل الاستفهامية معتمدا على السياق.
لقد سيطر التكثيف الاستفهامي كان مسيطرا في النصف الأول من الديوان؛ حيث تردد منذ القصيدة الأولى حتى القصيدة السادسة ثلاث وثلاثين مرة؛ ما يدل على أهميته الفنية في مرحلة كان الصلوي/المتنبي يبحث فيها عن ذاته، لذا جاء الاستفهام لأغراض متعددة منها السؤال، التساؤل، الإستنكار، والتعجب. كما أن الاستفهام وجد مسيطرا على قصائد كاملة مثل فيها وحدة البناء الأساسية يقول في القصيدة الأولى:
نار
..........
أي نار تلك ؟!!
لا يبقى نحيبك ..
هل مددت لقلبك
الذاوي سبيلا
.........
بنى الصلوي نصه زمنيا على ثلاث عشرة ليلة، جاءت على مستويين؛ الأول: التزم الشاعر فيه بالترتيب الزمني، منذ الليلة الأولى التي تأتي بعنوان(أي ماء أنت؟) وهي الليلة الأخيرة بحلب، حتى الليلة التاسعة التي تأتي بعنوان (إن غدا أريجك) وهي الليلة الأخيرة قبل الموت، ثم الأربع ليال الأخرى المتبقية التي لا يحكمها منطق الترتيب، فهي تحمل تيمات ما بعد الموت؛ بعودة أخرى للروح بذكرياتها القديمة؛ حيث ثلاث ليالي مؤجلة، وليلة أخيرة خارج الوزن والزمن والبحر والقافية، أي خارج المنطق وقد جعل عنوانها ( جل هذا الكائن الليلي) و ارتدى فيها لباس الحكمة، فهو الآن يطل من علٍ على الشعر، النقد، الأحلام، الصحراء، فيخاطب جماعة النقاد، ويقف منهم موقف المعطي المانح:
فاكتبوا ما شئتموا
لكم الخلود
تآلفوا سكنا
لشحرور الأسى
بوجه عام العمل الشعري به أكثر من المتنبي؛ حيث نجد ( دون كيشوت)الرمز الدائم يسكن في قلب القصيد، متنقلا بين الأفكار والرؤى في سبيل البحث عن أيقونته الخاصة التي لا يجدها، محولا البحث عنده إلى غاية وهدف في ذاته، كما نجد في نهاية الديوان هاني الصلوي مستعدا لاستكمال نصه التالي.