الأحد، 20 فبراير 2011

غربة بطعم الكفن !


1

قد أجبرته الأقدار على التخلي عن زمن الصبا والطيش والدخول بوجهه الشاب الفتي البريء الى حياة الجد ، حيث الحياة قاسية تنزع عن صدرها أبنائها وتلقيهم في الكبت والجلد كي يكونوا أقوياء أكثر ، هكذا اختصر الزمان مسافة طويلة لمحمد ذلك الشاب الوسيم ذي الملامح الحادة ، وهي تدفعه بحقيبته الى وداع أهله وأحبته على شاطئ البحر ، ملوحا بيديه الى أمه الحنونة ، قائلا " سأعود بأموال كثيرة ، ادعي لي وارضي عني " .

:

الاغتراب عن الأحبة أمر قاتل يحتاج لصبر لا ينفد ، وصاحبنا محمد قد نفدت مؤنه ، فالبحر تجربة إنسانية خطيرة تقحمك في صراع مع الطبيعة في وجهها الشرس ، ولم تكن هذه الحقائق مدركه في عقله الفتي حين دفعته رغبته في حياه أفضل على متن السفينة ، والآن هو يدركها شيئا فشيئا ، كانت كل هذه الأفكار تراوده وهو مستلق على ظهره على باطن السفينة التي كانت تندفع في ليل شديد السواد ، كان الجميع حوله حينها يغط في نوم عميق ، ومحمد يراقبهم في هذه الوحدة متوحشا المكان ، ومتوحشا زمن الغربة الذي لا يعلم متى ويكف سينتهي ، وما هي إلا برهات من التفكير في جيش المشاعر هذا إلا وباغته النوم بعد ان بللت دموعه تقاسيم وجهه ومنابت لحيته الغير منظمه .

:

" انزل البحر يا ولد " ، بهذه الحدة أمر النوخذة محمد ان يدخل أول تجاربه في البحر " غوصا " وسط اندهاش الجميع في السفينة ، حيث كان الاتفاق سابقا ان يعاون محمد طاقم السفينة في عملهم ولكن مسالة " الغوص بحرا " كانت مستبعدا تماما عن محمد الذي ارتعدت فرائصه حال سماعه للنوخذة ، " يبه ما اقدر ، اااخاف ، مااااااا اقدر " بتردد شديد وخوف من رهبه الموقف رد محمد على النوخذة الذي يطلق عليه لقب " يبه " احتراما لسنه ، وهو يتراجع بخطواته الى الخلف وجسمه يهتز انتفاضة ورعشه ، " لازم تتعلم ، جهزوه ، وخل واحد منكم ينزل معاه القاع ويعلمه " جاءت كلمات النوخذة كالصاعقة ،،،، محمد يتسمر في مكانه في درس جديد للحياة ، " هكذا تصبح الأشياء سريعة ومفاجئة ، تباغتني دون ترتيب ، لن أعود من البحر حيا " هكذا حدث صاحبنا نفسه وبو جاسم يجهزه للغوص في رحله مجهولة الى قاع الخليج بحثا عن اللؤلؤ !

2

كعادته دخل البيت بكل قسوة ، لم يلق التحية ، التفت إليه فإذا هو يتجه نحوي ويديه تقبض مضربا رياضيا ويهم علي بالضرب ، لم استطع مقاومته كالعادة ، فهو جثه في شكل إنسان طبيعي ، قلت له : كفى ، كفى ، اتركني ، فرماني زاجا بي من أعلى درجات السلم ، وتدحرجت بجسدي وأنا ابكي حرقة وانزف دما ، وما همني حينها ما يجري بي بقدر ما همني طفلي الصغير الذي كان يرى ويصرخ بانين مكتوم ما يجري لامه على يد أبوه ، توسلت إليه كثيرا ، ولكنه على غير العادة لم يتعب من ضربي وإهانتي ، تمنيت الخلاص من هذه الحياة ، المني جسدي وفقدت الشعر بدموعي ، فاستسلمت لضرباته دون مقاومه في خشوع مكسور ، مستسلمة لقدري في الحياة ، وحلت علي النهاية !

3

قالها محمد أخيرا وبعد تردد وخوف كبيرا " أبي أود بحق ان أتخصص في الفنون " ، كان الأب على وشك ان يشعل سيجارة لكنه توقف متسمرا والسيجارة في فمه ، والولاعة في يده الأخرى ، وعيناه تقذفان " النار " تجاه ابنه ، وفجأة وبعد برهة صمت أخافت محمد ، رمى الأب ما يحمل في كلتا يداه ، واتجه مسرعا نحو محمد ومسك أعلى ياقته البيضاء المفتوحة ، وقبض على ابنه كالفريسة وزج به الى زاوية الغرفة ، فعلت أنفاس كليهما ، الأب المستشيط غضبا ، والابن الميت خوفا ، " أبي دعني إنها حياتي " قالها الابن وهو يحاول ان يلفظ الكلمات وأنفاسه متقطعة ، والأب يقبض عليه بقسوة أكثر قائلا " بل هي حياتي أنا ، لم أكن يوما ما أريد ، وستكون أنت أنا كما أريد " !

4

أنا أتم رقم " 6 " بين سلسلة " بنات " أبي ، فبعد سنوات من انتظار الولد الذي طالما انتظره والدي وسمى نفسه " بو خالد " تيمنا بمجيء خالد في يوم من الأيام ، وبعدما قال الجميع للزوجة " فاطمة " " شكل بطنج كنه فيج ولد " ، وبعد فرحه عارمة بهذه التكهنات والتوقعات ، جئت " أنا " خولة ، وبالرغم من القصة تحمل في نتائجها طالعا لتراجيديا قادمة في الأحداث إلا ان هذه الطفلة " أنا " كانت وجه سعد على الجميع ، حيث قالها أبي ومازال يقول " ما زالت خولة الطفلة ، أجمل طفلة رأتها عيني حتى الآن " رغم امتداد العائلة " ما شاء الله " بالأبناء والأحفاد " في وقتنا الحالي " !

:

اذكره كيف كان حبي الأول ، أبي الوسيم ماضيا وحاضرا " أطال الله بعمره " أحبني أكثر من كل بناته وأبنائه الخمس الذين جاءوا من بعدي ، تقول أمي : " كان عمرك سنة وأبوك اشترى لك كرسيا للسيارة كي تصاحبيه الى دكانه الصغير كل مساء في سوق واقف ، كنت أخاف عليك وأغار منك " ! ، بعدما كبرت بعامان أصبحت مشاكسة كبيرة ، وشقيه صغيرة ، كنت اقبل وجهه الحاد الجميل التقاسيم في كل حين ويقول لي في أول تدريب للمعرفة من أنتي ؟ ، فأجيب " هووووولللللة " ، واحتضنه واضحك ، تقول أمي : " كنتي عياره " كنيه عن شقاوتي على أبي ، فكان يحملني كل مساء في زياراتنا خارج المنزل على كتفيه بعدما امثل إني غطت في نوم عميق ، وما ان يفعل ذلك اغمس لامي بعيني إني مستيقظة !


* تَحْذِيرٌ :فَلِهَذِهِ المادَةِ قَانُونُ حِفْظٍ يسْتَنِدُ عَلَى قَامَةٍ فِكْرِيَّةٍ وَدسْتُورٍ يمنَعُ كُلَّ تَجَاوُزٍ بالنَّشْرِ دُونَ النَّسَبِ للمَصْدَرِ في أَيِّ بِقَاعٍ إِعْلاميَّةٍ

خولة مرتضوي